سورة الأنفال - تفسير تفسير ابن عجيبة

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (الأنفال)


        


قلت: {كدأب}: خبر عن مضمر، أي: دأب هؤلاء مثل دأب آل فرعون، وهو عملهم وطريقتهم، التي دأبوا فيها، أي: داموا عليها {ذلك}؛ مبتدأ، و{بأنَّ الله}: خبر، وقال سيبويه: خبر، أي: الأمر ذلك، والفاء سببية.
يقول الحق جل جلاله: عادة هؤلاء الكفرة العاصين المعاصرين لك، في استمرارهم على الكفر والمعاصي، كعادة {آل فِرعون والذين} مضوا {مِنْ قبلهم}، ثم فسر دأبهم فقال: {كفروا بآيات الله} الدالة على توحيده، المنزلة على رسله، {فأخذهم الله بذنوبهم} كما أخذ هؤلاء، {إن الله قوي شديد العقاب}؛ لا يغلبه في دفعه شيء.
{ذلك} العذاب الذي حل بهم، بسبب ذنوبهم وكفرهم؛ لأن {الله لم يكُ مغيراً نعمةً أنعمها على قوم} فيبدلها بالنقمة، {حتى يغيروا ما بأنفسهم} أي: حتى يبدلوا ما بأنفسهم، من حال الشكر إلى حال الكفر، أو من حال الطاعة إلى حال المعصية، كتغيير قريش حالهم: من صلة الرحم، والكف عن التعرض لإيذاء الرسول ومن تبعه، بمعاداة الرسول، والسعي في إراقة دم من تبعه، والتكذيب بالآيات والاستهزاء بها. إلى غير ذلك مما أحدثوه بعد البعثة، {وأنَّ الله سميعٌ} لما يقولون: {عليم} بما يفعلون.
دأبهم في ذلك التغيير {كَدأْب آل فِرعون والذين من قبلهم كذّبوا بآيات ربهم فأهلكناهم بذنوبهم وأغرقنا آلَ فرعون} لمّا بدلوا وغيَّروا، ولم يشكروا ما بأيديهم من النعم، {وكلِّ} من الفرق المكذبة {كانوا ظالمين}؛ فأغرقنا آل فرعون، وقتلنا صناديد قريش؛ بظلمهم وما كنا ظالمين.
الإشارة: إذا أنعم الله على قوم بنعم ظاهرة أو باطنة، ثم لم يشكروا الله عليها، بل قابلوها بالكفران، وبارزوا المنعم بالذنوب والعصيان، فاعلم أن الله تعالى أراد أن يسلبهم تلك النعم، ويبدلها بأضدادها من النقم، فمن شكر النعم فقد قيدها بعقالها، ومن لم يشكرها فقد تعرض لزوالها. فالشكر قيد الموجود وصيد المفقود، فمن أعطي ولم يشكر، سُلب منها ولم يشعر، والشكر؛ أَلا يُعْصَى الله بنعمه، كما قال الجنيد رضي الله عنه. والله تعالى أعلم.


قلت: {فهم لا يؤمنون}: جملة معطوفة على جملة الصلة، والفاء للتنبيه على أن تحقق المعطوف عليه يستدعي تحقق المعطوف، و{الذين عاهدت}: بدل بعضٍ من (الذين كفروا)، و{فشرد}: جواب (إما)، والتشريد: تفريق على اضطراب.
يقول الحق جل جلاله: {إنَّ شرَّ الدوابِّ عند الله} منزلة {الذين كفروا}، تحقق كفرهم، وسبق به القدر، {فهم لا يؤمنون} أبداً؛ لِمَا سبق لهم من الشقاء. نزلت في القوم مخصوصين، وهم بنو قريظة، {الذين عاهدتَّ منهم} أي: أخذت عَليهم العهد ألا يعاونوا عليك الكفار، {ثم يَنقُصُونَ عهدَهم في كل مرةٍ} أي: يخونون عهدك المرة بعد المرة، فأعانوا المشركين بالسلاح يوم أُحد، وقالوا: نسينا، ثم عاهدهم، فنكثوا ومالؤوهم عليه يوم الخندق، وركب كعبُ بن الأشرف في ملأ منهم إلى مكة، فحالفوا المشركين على حرب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فخرج إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقتل مقاتلتهم سبا ذراريهم، {وهم لا يتقون} شؤم الغدر وتبعته، أو: لا يتقون الله في الغدر ونصرته للمؤمنين وتسليطه إياهم عليهم.
قال تعالى لنبيه الصلاة والسلام: {فإما تَثقفنُهمْ} أي: مهما تصادفهم وتظفر بهم {في الحرب فشرِّدْ بهم} أي: فرِّق عنك من يُناصبك بسبب تنكيلهم وقتلهم، أو نكِّل بهم {من خَلْفَهم}؛ بأن تفعل بهم من النقمة ما يزجرُ غيرهم؛ {لعلهم يذكّرون} أي: لعل من خلفهم يتعظون فينزجروا عن حربك.
{وإما تَخَافَنَّ من قوم} معاهدين {خيانةً} أي: نقص عهد بأمارات تلوح لك، {فانبِذْ إليهم} أي: فاطرح إليهم عهدهم {على سواءٍ} أي: على عدل وطريق قصد في العداوة، ولا تناجزهم بالحرب قبل العلم بالنبذ، فإنه يكون خيانة منك، أو على سواء في العلم بنقض العهد، فتستوي معهم في العلم بنقض العهد، {إنَّ الله لا يُحب الخائنين} أي: لا يرضى فعلهم، وهو تعليل للأمر بالنبذ والنهي عن مناجزة القتال المدلول عليه بالحال.
{ولا تحسبن}، يا محمد، {الذين كفروا سَبقُوا} قدرتنا، ونجوا من نكالنا؛ {إِنهم لا يُعجزُون} أي: لا يفوتون في الدنيا والآخرة، فلا يعجزون قدرتنا، أو لا يجدون طالبهم عاجزاً عن إدراكهم، بل اللَّهُ محيط بهم أينما حلوا. والله تعالى أعلم.
الإشارة: شرفُ الإنسان وكمالُه في خمسة أشياء: الإيمان بالله، وبسائر ما يتوقف الإيمان عليه، والوفاء بالعهود، والوقوف مع الحدود، والرضى بالموجود، والصبر على المفقود.
وقال القشيري في قوله تعالى: {فإما تثقفهم في الحرب...} الآية، أي: إنْ صَادَفْتَ واحداً من هؤلاء الذين دأبُهم نقصُ العهد، فاجعلهم لمن يأتي بعدهم، لئلا يسلكوا طريقَهم، فيستوجبوا عُقُوبتهُم. كذلك مَنْ فَسَخْ عقده مع الله بقلبه، برجوعه إلى رُخَصِ التأويلات، ونزول إلى السكون مع العادات، يجعله الله نكالاً لمن بعده، بحرمان ما كان خوَّلَه وتنغيصه عليه. ثم قال عند قوله: {وإما تخافن من قوم خيانة}، يريد إذا تحقَّقْت خيانة قوم منهم، فَصَرِّح بأن لا عهدَ بينك وبينهم، فإذا حصلت الخيانة زال سَمتُ الأمانة، وخيانةُ كلّ أحدٍ على ما يليق بحاله. اهـ.


يقول الحق جل جلاله: {وأعدوا لهم}، أي: لناقضي العهد، أو لمطلق الكفار، {ما استطعتم من قوة}، أي: ما قدرتم عليه من كل ما يتقوى به في الحرب. وعن عقبة ابن عامر، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول على المنبر: «ألاَ إنَّ القُوَّة الرَّمْي» قالها ثلاثاً، ولعله عليه الصلاة والسلام خصه بالذكر؛ لأنه أعظم القوى، {و} أعدوا لهم أيضاً {من رباط الخيل} اي: من الخيل المربوطة للجهاد، وهو اسم للخيل التي تربط في سبيل الله، بمعنى مفعول، أو مصدر، أو جمع ربيط؛ كفصيل وفصال.
والمراد: الحث على استعداد الخيل العتاق التي تربط وتعلف بقصد الجهاد، وهو من جملة القوة، فهو من عطف الخاص على العام، للاعتناء بأمر الخيل لما فيها من الإرهاب. ولذلك قال: {تُرهِبون به} أي: تخوفون بذلك الأعداء، أو بما ذكر من الخيل المربوطة، {عدو الله وعدوَّكم} يعني كفار مكة، {وآخرين من دُونهم} أي: من غيرهم من الكفرة، كفارس والروم وسائر الكفرة، {لا تعلمونَهم}، أي؛ لا تعرفونهم اليوم، {الله يعلمهم}، وسيمكنكم منهم، فتقاتلونهم وتملكون ملكهم، {وما تُنفقوا من شيء في سبيل الله}، في شأن الاستعداد، وغيره مما يستعان به على الجهاد، {يُوف إليكم} جزاؤه، {وأنتم لا تُظلمون} بتضييع عمل أو نقص أجر، بل يضاعفه لكم أضعافاً كثيرة، بسبعمائة أو أكثر. والله تعالى أعلم.
الإشارة: وأعدوا لجهاد القواطع والعلائق التي تعوقكم عن الحضرة، ما استطعتم من قوة، وهو العزم على السير من غير التفات، ومن رباط القلوب في حضرة الحق، تُرهبون به عدو الله، وهو الشيطان، وعدوكم، وهي النفس، وآخرين من دونهم: الحظوظ واللحوظ وخفايا خدع النفوس، لا تعلمونهم، الله يعلمهم؛ كالرياء والشرك الخفي، فإنه يدب دبيب النمل، وما تنفقوا من شيء يُوف إليكم أضعافاً مضاعفة، بالعز الدائم والغنى الأكبر، وأنتم لا تُظلمون.
وقال الورتجبي: أَعلم الله المؤمنين والعارفين استعداد قتل أعداء الله، وسمى آلة القتال بقوة، وتلك القوة قوة الإلهية التي لا ينالها العارف من الله إلا بخضوعه بين يديه، بنعت الفناء في جلاله، فإذا كان كذلك يلبسه الله لباس عظمته ونور كبريائه وهيبته، ويغريه إلى الدعاء عليهم، ويجعله منبسطاً، حتى يقول في سره: إلهي خذهم، فيأخذهم بلحظة، ويسقطهم صرعى بين يديه بعونه وكرمه، ويسلي قلب وليه بتفريجه من شرور مُعارضيه ومنكريه، وذلك سهم رمى نفوس الهمة عن كنانة الغيرة، كما رمى نبي الله صلى الله عليه وسلم إلى منكريه حين قال: «شاهت الوجوه» وهذا الرمي من الله بقوله: {وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى}.
سمعت أن ذا النون المصري رضي الله عنه كان في غزو، وغلب المشركون على المؤمنين، فقيل له: لو دعوت الله، فنزل عن دابته وسجد، فهُزم المشركون في لحظة، وأُخذوا جميعاً، وأُسروا، وقُتلوا.
وأيضاً: وأعدوا: أي اقتبسوا من الله قوة من قوى صفاته لنفوسكم حتى يقويكم في محاربتها. قال أبو علي الروذباري، في قوله: {وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة}، فقال: القوة هي الثقة بالله، قيل ظاهر الآية: إنه الرمي بسهام القِسي. وفي الحقيقة: رمي سهام الليالي في الغيب؛ بالخضوع والاستكانة، ورمي القلب إلى الحق؛ معتمداً عليه، راجعاً إليه عما سواه. اهـ.
ثم بيّن أن المعول على الله ونصرته، لا على السلاح والآلات بقوله: {هو الذي أيدك بنصره وبالمؤمنين}، أي: قواك بقوته الأزلية، ونصرك بنصرته الأبدية، ووفق المؤمنين بإعانتك على عدوك. ثم بيّن سبحانه أن نصرة المؤمنين لم تكن إلا بتأليفه بين قلوبهم، وجمعهم على محبة الله ومحبة رسوله، بعد تباينها بتفريقة الهموم في أودية الامتحان، بقوله: {وألَّف بين قلوبهم}. وقال القشيري: الإشارة بقوله: {تُرهبون}: إلى أنه لا يجاهد على رجاء غنيمةٍ ينالها، أو إشفاء صدر عن قضية حقد، بل قصده أن تكون كلمة الله هي العليا. اهـ.

7 | 8 | 9 | 10 | 11 | 12 | 13 | 14